الحدود ليست مجرد خطوط ترسم على الخرائط بحيث يسهل تغييرها، إنها تكتسب قوة بمرور الزمن وتدعمها الاتفاقيات الدولية ويحميها القانون الدولى العام لأن خرقها يرتب التزامًا دوليًا على عاتق الطرف الذى يقوم بذلك، نظرًا للأهمية السياسية والإستراتيجية والاقتصادية للحدود.
فى ضوء ذلك نستطيع القول دون مبالغة إن الصهيونية تترسم المنحى الفكرى للمدرسة الألمانية فى الجيوبولتيك خطوة خطوة منذ أن وضع فردريك راتزل بذورها نحو نهاية القرن التاسع عشر إلى أن بلورها كارل هاوسهوفر عندما أزكى فكرة المجال الحيوى للعنصر الألمانى قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان الدرس الأول الذى تلقته الصهيونية عن راتزال قوله: الدولة كائن عضوى ينبغى أن يستمر نموه لتكتب له الحياة، فإذا تعثر النمو وتوقف كان ذلك بداية لتدهور الدولة وفنائها وأن حدود أى قطر هى أرهف أعضائه حسًا، تتمدد وتتقلص تبعا لقوته أو ضعفه فالحدود ليست خطوطًا بقدر ما هى مساحات متغيرة تعكس حالة ذلك القطر.
وعلى ذلك فإنه ليس من قبيل المصادفة أن يستمر الكيان الصهيونى فى النمو منذ سنة 1948م وحتى اليوم، بل إن ذلك تطبيق حرفى لتعاليم راتزال أو بالأحرى مبالغًة فى التطبيق.
وحتى اليوم تبقى إسرائيل بلا تحديد لحدودها السياسية، فحدها هو فى الواقع حد سيفها، وقد كانت مسألة تعيين حدود إسرائيل من أكثر المسائل التى دار حولها الخلاف فى أوساط المنظمة الصهيونية العالمية التى تأسست إثر المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، ولم يكن الخلاف يدور حول مبدأ قيام الدولة اليهودية بقدر ما كان يدور حول المقترحات البريطانية القاضية بقبول حدود هذه الدولة ضمن الإطار الذى حدده نظام الانتداب الذى أوصت به عصبة الأمم.
وانطلاقًا من الفكر الصهيونى يجيء موقف إسرائيل وترديدها الدائم لضرورة التوصل إلى اتفاق حول حدود آمنة لها. وتتركز وجهة النظر الإسرائيلية فى هذا الشأن فى أن حدود ما قبل 5 يونيو 1967م لم تكن حدودًا آمنة بالنسبة لها ولذلك لا يمكن لها أن تعود إليها، وهى خطوط الهدنة، وهو ما يعطى المفهوم الإسرائيلى لموضوع الحدود معنى جديدًا الحدود الآمنة بمعنى التوسع فى حين أن مفهوم الدول العربية للحدود الآمنة هى تلك الحدود المعروفة من قبل والتى حددتها الأمم المتحدة فى قراراتها، وإذا تطلب الأمر فليس هناك ما يمنع من توفير عنصر الأمن لها عن طريق ضمانات وترتيبات جديدة (الحدود الآمنة بمعنى الضمانات).
وعلى الرغم من كثرة الحديث الإسرائيلى عن الحدود الآمنة فإن إسرائيل لم تصرح حتى الآن بالخطوط التى تريدها حدودًا لها، ولم تحدد بشكل واضح ماهية هذه الحدود وطبيعتها الجغرافية فما زالت إسرائيل تتبنى موقفًا سلبيًا يقوم فقط على أن الحدود الآمنة ليست هى الحدود التى كانت قبل الخامس من يونيو عام 1967م، وأن الحدود الآمنة يتم تحديدها عن طريق التفاوض المباشر بين الأطراف المعنية.
وهكذا يتضح أن التصور الإسرائيلى للحدود الآمنة إنما يعنى التوسع الإقليمى والرغبة فى اكتساب مزيد من الأرض تحقيقًا للأطماع التوسعية الصهيونية، ونورد فى هذا السياق عدة حقائق: أن الضمان الجغرافى ليس ضمانًا حقيقيًا. إنه لم يحدث قط منذ هدنة 1949م أن عبرت قوات عربية نظامية خطوط هذه الهدنة لتهاجم إسرائيل، فى حين أثبتت القوات الإسرائيلية فى كل مرة عبرت فيها خطوط الهدنة أن هذه الخطوط لم تكن رادعة للهجوم الإسرائيلى أو حائلًا دون تحقيق أهدافه. إن خطوط ما قبل 5 يونيو 1967م لم تكن كلها مجرد خطوط هدنة عسكرية، بل إن جزءًا كبيرًا منها توافر له وصف الحدود الدولية قبل قيام إسرائيل بوقت طويل. إن قرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967م يرفض الضمان الجغرافى، فهو يستهدف تسوية نهائية للصراع العربى الإسرائيلى، ويستبعد أن يكون أساس هذه التسوية هو مزيد من التوسع الإقليمى لحساب إسرائيل. إنه من الضرورى الانتباه واليقظة فى شأن بعُد مهم وهو لجوء إسرائيل إلى نشر خرائط مغلوطة مزورة، وكذلك التأكد من عدم استخدام الجهات الحكومية مثل هذه الخرائط، ونذكر بأن مصر قد انتصرت فى قضية طابا لأنها قدمت حججًا وأسانيد ودلائل قانونية دامغة من بينها خرائط قديمة نادرة، الأمر الذى يؤكد أهمية شكل الحدود على الخرائط، ونشير بقوة إلى تعليمات الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة فى فبراير 2013م، تعليمات إلى جميع الجهات الحكومية والهيئات العامة بضرورة استخدام خرائط معتمدة من الهيئة المصرية العامة للمساحة حتى لا يتعارض استخدام غير هذه الخرائط المعتمدة مع الوضع الطبيعى والجغرافى السياسى لحدود مصر الدولية.
إن موضوع الحدود يمثل مركزًا خاصًا بين المسائل المختلفة للصراع العربى الإسرائيلى، نظرًا لارتباطه المباشر بنتائج حرب يونيو 1967م وما أكدته من أطماع إقليمية لإسرائيل فى أراضى الدول العربية المجاورة.
ويظل هذا الموضوع ملمحًا رئيسًا ملحًا مع التطورات المتسارعة فى مسار الصراع وخصوصا مع تداعيات وآثار عملية طوفان الأقصى التى قامت بها كتائب القسام التابعة لحركة حماس فى قطاع غزة وبالتحديد الحرب غير العادلة التى تشنها القوات الإسرائيلية على الفلسطينيين ليس فقط فى القطاع بل وكذلك فى الضفة. وأخيرًا نعيد تأكيد الأهمية القصوى للتصدى للمحاولات الدءوبة لإسرائيل تغيير الجغرافيا والتلاعب بالتاريخ.
قم بالتسجيل مجانًا وكن أول من يتم إعلامك بالمنشورات الجديدة.