لما كانت الكتابة هى فى الجوهر تدوينا لفكرة لكى تنتقل من عقل لآخر، فإن هذه الفكرة لن تنتقل وتصل ويتم إدراكها واستيعابها إلا إذا كان التعبير عنها كتابة يتسم بسمات معينة ويتوافر فيه شروط محددة تجعلها كتابة بليغة تحقق المراد من طرحها.
أما البلاغة لغة: بلغ المكان وصل إليه، البلاغ تعنى الكفاية، شىء بالغ أى جيد. والبلاغة هى الفصاحة، وذلك فى مختار الصحاح، وفى المعجم الوجيز بلغ الأمر وصل إلى غايته، بلغ بلاغة فصُح وحُسن بيانُه، البلاغة حُسن البيان وقوة التأثير.
لقد باتت الكتابة البليغة مشكلة المشاكل بالنسبة لمعظم الباحثين أو لكثير منهم على الأقل، فالعمل وبذل الجهد فى جمع المادة العلمية والترجمة والبحث عن المصادر والتصنيف والتوظيف... وما شاكل ذلك أمر وعرض ذلك عن طريق الكتابة أمر آخر، فقد أصبحت الكتابة البليغة فى واقع الأمر شرطًا أساسيًا للباحث أو الكاتب لكى يتمكن من عرض أفكار وعناصر موضوعه والمنهاجية التى اتبعها، والنتائج التى توصل إليها والتوصيات التى يمكن أن يطرحها... كل ذلك يجب التعبير عنه بطريقة سهلة مفهومة ومفيدة، وإلا فما الفائدة؟
ومن هنا نفترض تميز أسلوب العلماء وطلاب العلم المتميزين والباحثين المجتهدين فيما يكتبونه، بدقة التعبير وتحديد دلالات الألفاظ والمصطلحات تحديدًا دقيقًا ينتفى معه اللبس ويتم تجنب مواطن الخلط وسوء الفهم، فضلًا عن سهولة نقل المعانى والأفكار لإدراكها على حقيقتها واستيعابها على قصدها.
والكاتب الجيد هو من يجتهد ليكتب بطريقة سلسة ـ مرتبة ـ منظمة ـ منمقة ـ مترابطة وواضحة، وبقدر ما تمتع الكتابة الجيدة القارئ بقدر ما تثيره اللغة غير السليمة أو الرديئة...
وحظيت البلاغة باهتمام العلماء والمفكرين فإذا تجولنا قليلًا بين كلمات ومقولات بعض ممن اهتموا وتحدثوا ونصحوا وعرَفوا الكتابة البليغة فى سياقات شتى ومجالات متنوعة ومواقف متباينة، نجد أمثلة كثيرة: فى برنامج فى إذاعة القرآن الكريم تحدث أحد علمائنا الأجلاء من شيوخ الأزهر الشريف فحدد القواعد الذهبية فى الكتابة البليغة فى : التحقيق ـ التدقيق ـ التنميق ـ ثم الترقيق.
ويرى كثير من أهل الاختصاص أننا نحن العرب لدينا مشكلة كبيرة وهى أننا لا نلتزم بكثير من قواعد الكتابة التى دعا إليها الكتاب الكبار، فلا سهولة، ولا وضوح، ولا بيان للمقصد، ولا بحث، ولا تحقيق، ولا تدقيق ولا منهج مميز. الإمام فخر الدين الرازى يرى أن البلاغة تكمن فى بلوغ الرجل بعبارته كنه ما فى قلبه مع الاحتراس من الإيجاز المخل والتطويل الممل.، سأل معاوية بن أبى سفيان عمرو بن العاص عن أبلغ الناس فأجابه أقلهم لفظًا وأسهلهم معنى وأحسنهم بديهة. ويقول الأديب الأيرلندى الشهير برنارد شو: إن طريقتى هى أن أتحمل مشقة بالغة فى أن أجد قولًا ملائمًا ثم أقوله بمنتهى الخفة واليسر.
ويتحدث الأديب الإنجليزى سومرست موم عن موقفه من البلاغة فى الكتابة فيقول: يخطر ببالى أحيانًا فى أثناء الكتابة كلمات بليغة ولكنها صعبة أو ثقيلة النطق، وسرعان ما أغيرها بكلمات سهلة، وإن لم تؤد المعنى كما كانت تؤديه الكلمات الأولى لأننى أعلم أن الأسلوب المعقد يفعل فعل المخدر فى تنويم القارئ مهما زعم أنه من عشاق البلاغة وأنصار التبحر فى اللغة. الكاتب الإنجليزى الأشهر فى القرن العشرين جورج أورويل صاحب الأعمال الرائعة: متشرد بين لندن وباريس، مذكرات خادم مطيع ـ ابنة الكاهن ـ أيام بورما ـ الحنين إلى كتالونيا ـ الصعود إلى الهواء ـ مزرعة الحيوانات، وأهمها على الإطلاق روايته الأخيرة (1984)، حدد فى مقالة له نشرت عام 1946م بعنوان السياسة واللغة الإنجليزية قواعد الكتابة الرصينة فى الآتى: لا تستخدم أبدًا مجازًا او تشبيًها اعتدت رؤيته بأقلام الآخرين. كلما أمكنك حذف كلمة، احذفها. لا تستخدم المبنى للمجهول كلما كان استخدام المبنى للمعلوم ممكنًا. لا تستعن بكلمات طويلة ممتدة، مادامت هناك جمل قصيرة بديلة. لاتستخدم عبارة أو كلمة أجنبية أو صعبة الفهم، طالما كان لها بديل بسيط فى اللغة اليومية الدارجة. ولذلك من المهم جدا لباحثينا وكتابنا الحرص على الإمساك بناصية الكتابة البليغة.
> كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ــ جامعة القاهرة
قم بالتسجيل مجانًا وكن أول من يتم إعلامك بالمنشورات الجديدة.