مقالة تصنيف عام

فيلم أوبنهايمر وأخلاقيات البحث العلمى

ترقبت بشوق كبير وانتظرت بفكر متحفز عرض الفيلم الأمريكى أوبنهايمر والذى يجسد بحرفية مذهلة حكاية مشروع مانهاتن الأمريكى وهو مشروع بحث وتطوير جرى العمل عليه – أغسطس 1942م إلى أغسطس 1945م –فى أثناء الحرب العالمية الثانية لإنتاج أول قنبلة ذرية فى التاريخ استباقًا لنجاح العلماء الألمان فى ذلك، وقد قاد هذا المشروع عالم الفيزياء الفذ الأمريكى من أصل ألمانى روبرت أوبنهايمر والذى كان الشخصية الرئيسة فى الفيلم وبؤرة تركيزه، وقد كتب الفيلم وأخرجه كريستوفر نولان عن كتاب السيرة الذاتية بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر والذى ألفه الكاتبان كاى بيرد ومارتن ج. شيروين.

وقد عمر الفيلم بأبعاد وقضايا ومتغيرات ومواقف وسلوكيات وحوارات وإجراءات عديدة مهمة وحيوية تحفز العقل وتستثير الفكر وتستدعى العصف الذهنى فى مجالات متنوعة استراتيجية وعسكرية وحربية وسياسية وإدارية وتمويلية واجتماعية ونفسية, انتقى منها ما يمكن إسقاطه فى مجال البحث العلمي.

تعنى الأخلاقيات أساسًا بتقييم السلوك الإنسانى من حيث صواب أو خطأ الأفعال ودوافعها هل هى طيبة أم شريرة، والعواقب هل هى حميدة أم خبيثة.

وتميز اللغة الانجليزية فى هذا السياق بين كلمتى Morality وEthics، ويقال بصفة عامة إن الأولى تعنى الإشارة إلى مبادئ مهنية معينة، بينما الثانية تبدو أكثر ملاءمة للاستخدام عند الحديث عن سلوك شخصى، وقد توافر المفهومان فى فيلم أوبنهايمر بوضوح، فالمشروع البحثى يثير بتفاصيله المعنى الأول فى حين تجسد شخصية العالم أوبنهايمر المعنى الثاني.

وأخلاقيات البحث العلمي, تمثل لقاءً حميمًا بين العلم والفلسفة على مستوى الفكر ومستوى الواقع تشتبك فى إطاره أطراف عديدة سياسية وعسكرية وعلمية واقتصادية وتربوية ودينية وقانونية.

وتثار فى هذا المجال مسائل مهمة مثل: العلم من حيث هو مهنة، معايير السلوك الأخلاقى فى العلم، الموضوعية فى البحث، الأبعاد الأخلاقية فى النشر العلمى، المهنية فى العمل فى المختبرات، المسئولية الاجتماعية للبحث العلمى، الحرية الأكاديمية، المعرفة والسلطة، حقوق الباحثين والعلماء، وغيرها. وقد تراوحت مشاهد الفيلم لتعرض عديدًا من هذه المسائل بلغة فنية راقية وحوارات رفيعة المستوى، وأداء مقنع للغاية.

ومما نخرج به كذلك من مشاهدة الفيلم أن استغراق العالم فى بحثه وانكبابه على معادلاته وطموحه الكبير وتركيزه الشديد وإصراره على النجاح، يحول دون رؤيته لما قد يترتب على إبداعه من آثار سلبية قد تكون مدمرة، وقد جسد أوبنهايمر هذا المأزق بعد أن شاهد النتائج المروعة لإلقاء القنبلة الذرية على كًل من هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين، وفى إحساسه بالمرارة والحزن واليأس ودخوله فى حالة اكتئاب حين أيقن أنه صاحب مسئولية عما حدث كعالم وضع السلاح فى يد الساسة الذين يفكرون بمنطق مخالف لا يضع كثيرًا من الأهمية للاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.

هذا وقد تعدى أوبنهايمر هذه الأحاسيس الشخصية ليبادر فى الواقع إلى الضغط كثيرًا من أجل السيطرة على الطاقة الذرية والعمل على ضبط انتشارها وسباق التسلح مع الاتحاد السوفيتى، وعارض تطوير القنبلة الهيدروجينية، واتخذ بعد ذلك مواقف بشأن القضايا المتعلقة بالدفاع والتى أثارت غضب بعض المسئولين الحكوميين والقادة العسكريين إلى حد معاداته وربما التآمر ضده.

موضوع العواقب الأخلاقية للتقدم العلمى لايزال مستمرًا معنا ونحن نشاهد الفيلم ويتعلق الأمر هنا ببعد داخلى خاص بالتكلفة البشرية لإجراء التجارب والتطبيقات العملية فى سبيل إنتاج السلاح، وهنا يؤخذ على الفيلم تجاهله لمسألة تأثير اختبارات صنع القنبلة الذرية على السكان الأصليين الأمريكيين فى ولاية نيو مكسيكو - صحراء وايت ساندز ولم يتعرض ولو بإشارة لتلك التكلفة. مصطلحات عدم اليقين والشك العلمى والاحتمالات والترجيحات وسوء التقدير ومثيلاتها تطل برأسها دائمًا فى مجال البحث العلمى، وقد بانت فى الفيلم فى أكثر من مشهد أو موقف نذكر منها انسحاب العالم البريطانى – البولندى المولد – جوزيف روتبلات من فريق العمل فى مشروع مانهاتن تأسيسًا على تقديره وتوقعه بأن العلماء الألمان لن يستطيعوا التوصل إلى صنع القنبلة الذرية قبل سنوات، وجدير بالذكر أن هذا العالم قد حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1995م!!.

وتبدو فكرة عدم اليقين أو «خطأ التقديرات» أو ما شابه، واضحة فى استبعاد فريق البحث الأمريكى لإمكانية نجاح العلماء السوفيت فى التوصل لصنع القنبلة الذرية لسنوات قادمة، الأمر الذى ثبت خطؤه، وربما نتذكر هنا ما يدرس فى نظرية الصراع الدولى بشأن معضلة السجين.

تثار فى مجال العلم والبحث العلمى تساؤلات عدة نحسبها ضرورية مثل هل العلم محايد؟ العلم سلعة أم خدمة؟ ماذا عن أن العلم سلاح ذو حدين؟ هل للخلفية السياسية للعلماء أو أصولهم العرقية تأثير فى موضوعية النتائج؟ وغيرها.

وقد أثيرت مثل هذه المسائل التى تعبر عن اجابات التساؤلات هذه فى مواطن كثيرة فى الفيلم، وتظل مسألة التمييز بين الاستخدام السلمى وذلك الحربى لمخترعات العلم الحديثة والتى تتجسد فى الانحراف بمسار تلك المخترعات من جانب الساسة وتجار الحروب، مدرجة على جدول أعمال المفكرين والناشطين خصوصًا فى مجال حقوق الإنسان، وكما يتضح من مشاهدة فيلم «أوبنهايمر» وهو ما يحدث أيضًا على أرض الواقع أن القرار فى نهاية الأمر قرار سياسى، وهنا يظهر شبح الموت متسائلًا هل استخدام السلاح المبتكر يهدف إلى الردع أم إلى الإبادة؟.

> أستاذ الإدارة العامة

جامعة القاهرة

اشترك في نشرتنا الإخبارية

قم بالتسجيل مجانًا وكن أول من يتم إعلامك بالمنشورات الجديدة.